دروس الفجر – ومضات ولقطات إيمانية : علامات معرفة الله ، لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ، من لوازم الإيمان أن تعرف الواحد الديان معرفة الله شيء ، ومعرفة العلوم الإسلامية شيء آخر ، قد تستطيع أن تتكلم ساعات طويلة ارتجالاً ، ومن دون تحضير بأفصح لغة ، وبأصح دليل ، وبأعمق تحليل ، وأنت لا تعرف الله ، تعرفه إذا خفت منه ، وتعرفه إذا رجوت جنته ، وتعرفه إذا شعرت أنه معك دائماً ، وتعرفه حينما توقن أنه يعلم وسيحاسب ، وسيعاقب ، تعرفه إذا توكلت عليه ، تعرفه إذا ذكرته ، تعرفه إذا اشتقت إليه .
أيها الإخوة ، معرفة الله شيء ، وأن تكون متبحراً في العلوم الإسلامية شيء آخر ، هذه الخصيصة للمؤمن مستنبطة من قوله تعالى :
[ سورة المائدة : 83]
إن لم تشعر بالقرب ، إن لم تشعر بالحب ، إن لم تشعر بأن الله سبحانه وتعالى متفضل عليك فأنت لا تعرفه .
الآن سأورد أقوالا كثيرة حول علامات المعرفة ، وهذه مفيدة جداً ، من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة منه ، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته ، الذي يعرف الله يعظم شعائر الله ، وحينما أقول هان أمر الله علينا فهنّا على الله ، معنى ذلك نحن لا نعرفه ، المعرفة توجب السكون ، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته ، الهياج والعنف والصياح والضجيج والسخط ، والموقف القاسي ، والكلام البذيء هذا لا يعبر عن أنك تعرف الله عز وجل ، من علامات المعرفة أنس القلب بالله ، فهو يحس أنه قريب منك ، ومن كان لله أعرف كان له أخوف ، قال تعالى :
[ سورة فاطر: 28]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( ... أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ )) .
[مسلم عن عمر بن سلمة]
من علامات معرفة الله أن الدنيا تضيق عليه بسعتها ، ومن علامات معرفة الله أن الدنيا تتسع عليه بضيقها كيف ؟ لو عاش في أجمل مكان ، وتناول أطيب طعام ، وتمتع بأجمل المناظر ، وهذا المكان بعيد عن ذكر الله يضيق به ، ولو عاش في غرفة قميئة ، وهو ذاكر لله تتسع به ، أينما حل إذا كان في هذا المكان ما يقرب إلى الله يأنس به ، ولو كان ضيقاً ، وإذا كان يبعد عن الله يستوحش منه ، ولو كان واسعاً ، من عرف الله عز وجل صفا له العيش ، فطابت له الحياة ، وهابه كل شيء ، وذهب عنه خوف المخلوقين ، وأنس بالله عز وجل ، والمخلوق ينتهي عنده ، لا يعبأ لا بتهديده ، ولا بوعيده ، ولا بإغرائه ، لا يتأثر لا بسياط الجلادين ، ولا بسبائك الذهب اللامعة ، من عرف الله عز وجل قرت عينه بالله ، وقرت عينه بالموت ، وقرت به كل عين ، ومن لم يعرف الله تقطع قلبه عن الدنيا حسرات ، من عرف الله زهد فيما سواه ، ومن ادعى معرفة الله عز وجل وهو راغب في غير الله كذبت رغبته معرفته ، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به ، وخافه ، ورجاه ، وتوكل عليه ، وأناب إليه ، ونهج بذكره ، واشتاق إلى لقائه ، واستحيا منه ، وأجلّه ، وعظمه على قدر معرفته به .
أيها الإخوة ، أي إنسان آتاه الله فكراً وقّاداً بإمكانه أن يقرأ ، وأن يحفظ ، وأن ينطق بالحق ، وأن يجلب عقول الآخرين ، هذا شيء ، وأن تعرف الله ، وأن تتخلق بالكمال البشري ، وأن تكون متواضعاً ، على الله متوكلاً ، إلى ما عنده راجياً ، من عقابه خائفاً ، راضياً بقضائه وقدره ، هذا من علامات المعرفة .
من علامات معرفة الله أن الذي يعرف الله عز وجل لا يطالب ، ولا يخاصم ، يؤدي الذي عليه ، والذي له الخصومة الشديدة إذا خاصم فجر ، ليس هذا من أخلاق العارفين بالله ، لا يطالب ، ولا يخاصم ، ولا يعاتب ، ولا يرى على أحد له فضلاًَ ، لأن الذي خلقه منحه نعمة الوجود ، أعطاه ما أعطاه ، مكنه مما مكنه ، هو لا يرى أن له على أحد فضلاً ، بل يرى أن كل ما هو فيه من فضل الله عز وجل ، ليس هذا أدباً ، بل هو حقيقة .
من علامات معرفة الله ألاّ يأسف على فائت ، وألاّ يفرح بآت ، لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال ، لأنها في الحقيقة كالظلال والخيال ، العارف بالله يخرج من الدنيا ، ولم يقضِ وطره من شيئين ، بكاء على نفسه ، و ثناء على ربه ، وهذا من أحسن الكلام ، ولا يكون العارف بالله عارفاً ـ حتى لو أعطي ملك سليمان ـ لم يشغله عن الله طرفة عين ، قال تعالى :
[ سورة النور : 37]
من علامات معرفة الله أن العارف بالله مستأنس بربه ، مستوحش ممن يقطعه عنه ، العارف بالله أنس بالله فاستوحش من الخلق ، وافتقر إلى الله فأغناه الله عنهم ، وذل لله فأعزه الله ، وتواضع لله فرفعه الله ، واستغنى بالله فأحوجهم إليه .
سئل الإمام الحسن البصري بما نلت هذا المقام ؟ فقال : باستغنائي عن دنيا الناس بما نلت هذا المقام ؟ وحاجتهم إلى علمي .
العارف بالله يتلون بتلون العبودية ، بينما تراه مصلياً ، إذا هو ذاكراً ، أو قارئاً ، أو معلماً ، أو مجاهداً ، أو حاجاً ، أو مساعداً للضعيف ، أو مغيثاً للملهوف ، فيضرب في كل غنيمة من الغنائم بسهم ، فهو مع المتعلمين متعلم ، ومع الغزاة غازٍ ، ومع المصلين مصل ، ومع المتصدقين متصدق ، فهو ينتقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية ، وهو مقيم على معبود واحد لا ينتقل في منازل العبودية إلى غيره .
من علامات معرفة الله ألاّ يعتقد باطناً من العلم ما ينقضه في ظاهر الحكم ، ولا تحمله كثرة النعم على هتك أسرار محارم الله عز وجل .
أيها الإخوة ، كثرة النعم تطغي العبد ، وتحمله على أن يصرفها في وجوهها ، وغير وجوهها ، قال تعالى :
[ سورة العلق : 7]
حينما تقوى مالاً أو مكانةً ، أو منصباً أو علماً ، الإنسان تغريه نفسه إذا استغنى أن يتفلت من منهج الله ، علامة معرفة الله عز وجل أنه مهما بلغت بك المراتب ، ومهما أقبلت عليك الدنيا ورعك ورعك ، وتواضعك تواضعك ، وذلك لله ، وخدمة المساكين هي خدمة المساكين ، صار سيدنا الصديق خليفة المسلمين ، وكان قبل أن يكون خليفة المسلمين يحلب شياه جارته العجوز ، فلما تسلم منصب الخلافة استقر في ذهن هذه العجوز أن هذه الخدمة انتهت ، في اليوم الأول من تسلم منصب الخلافة طرق باب العجوز ، قالت : يا بنيتي ، افتحي الباب ، من جاء ؟ قالت : جاء جالب الشاة يا أماه ، المنصب لا يغيره ، والمال لا يغيره ، هو هُو ، الإنسان حينما يقوى ، أو حينما يغتني ، أو حينما يتسلم منصباً رفيعاً قد يتناول ما يحل له ، وما لا يحل ، لكن العارف بالله ، قال تعالى :
[ سورة الأحزاب : 23]
مجالسة العارف بالله تدعوك من ست إلى ست ، من الشك إلى اليقين ، من الرياء إلى الإخلاص ، من الغفلة إلى الذكر ، من الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة ، من الكبر إلى التواضع ، من سوء الطوية إلى النصيحة .
أيها الإخوة ، مقام المعرفة شيء ، قد تجد إنساناً يعيد ما بدأت به هذا الدرس ، قد تجد إنساناً فصيح اللسان ، ناصع البيان ، قوي الحجة ، له تحليل دقيق لقضايا الدين ، إذا تكلم ملك القلوب ، أما حينما يعصي الله في خلوته فهو لا يعرفه أبداً ، أما حينما يتكبر على خلقه فهو لا يعرفه أبداً ، حينما يأخذ ما لا يحل له لا يعرفه أبداً ، لذلك قال تعالى :
[ سورة الفتح : 6]
هذا أيها الإخوة ، حينما يخيب ظن الإنسان بإنسان يتوهمه مؤمناً ، كيف يقول هذا الكلام ، ويفعل هذه الأفعال ؟ القضية سهلة جداً ، الملخص أن العلم علمان ، علم بأمر الله ، وعلم بالله ، العلم بأمر الله يقتضي المدارسة ، يحتاج إلى كتاب ، وإلى قراءة ، وإلى مذاكرة ، وإلى طلاقة لسان ، وإلى حفظ ، لكن العلم بالله يقتضي المجاهدة ، حينما يجاهد نفسه وهواه يكشف الله عز وجل لهذا الإنسان طرفاً من كماله فيحبه ، ومن أعجب العجب أن تعرفه ، ثم لا تحبه ، ومن أعجب العجب أن تحبه ، ثم لا تطيعه ، مستحيل أن تعرفه ، ثم لا تحبه ، وأن تحبه ، ثم لا تطيعه ، العلم بالله يقتضي المجاهدة .
الآن ثمار العلم بأمر الله ، معلومات دقيقة محشوة في الدماغ ، أما النفس فليست صافية ، علامة معرفة الله أن هذه المجاهدة مجاهدة النفس والهوى ولدت ثقة في النفس ، وإقبالاً على الله ، فسرى الكمال الإلهي في كل كيان الإنسان ، صار متواضعاً صار ، مؤدباً صار رحيماً صار منصفاً ، صار يحب الخير ، صار همه الأول أن يكون الناس بخير ، لا أن يعلو عليهم ، لذلك حينما قيل : يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ ، يا من قدست الوجود كله ، ورعيت قضية الإنسان ، يا من ذكيت سيادة العقل ، ونهنهت غريزة القطيع ، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً بين الجميع فعشت واحداً بين الجميع ، يا من كانت الرحمة مهجتك ، والعدل شريعتك ، والحب فطرتك ، والسمو حرفتك ، ومشكلات الناس عبادتك .
والحمد لله رب العالمين